الألم، برهان المحبة

رفض الألم و الهروب منه


وَذَلِكَ حَتَّى لَا نَكُونَ فِيمَا بَعْدُ أَطْفَالاً تَتَقَاذَفُنَا وَتَحْمِلُنَا كُلُّ رِيحِ تَعْلِيمٍ يَقُومُ عَلَى خِدَاعِ النَّاسِ وَالْمَكْرِ بِهِمْ لِجَرِّهِمْ إِلَى الضَّلالِ الْمُلَفَّقِ أفسس ١٤:٤

كلنا كبشر نرفض الألم ونهرب منه، ونعمل كل ما بوسعنا لكي نتجنبه قدر الامكان. فالألم أقوى عدو في نظر البشر جميعاً... ويعمل الناس جادّين ليلا ونهارا، ليكسبوا أكبر قسط من المال،

والهدف هو اكتساب حياة من الرفاهية، بعيدة كل البعد عن الألم وأنواعه من ضيق وبلية وصعوبات ونوائب... لكن الواقع يشهد ان الالم رغم قساوته وصرامته وعدم ترحيب البشر له، الا انه زائر ثقيل نراه في كل زاوية وفي كل بيت، يدخل من دون استئذان.. فالكبار والصغار على السواء يلاقيهم الالم في البيت والعمل، وفي الشارع وعلى السرير. فحين يضجع الناس ويريدون ان يرتاحوا من تعب وكد النهار، اذا بالألم والوجع ينتظرانهم على سرير النوم في منتصف الليل.. والتاريخ يثبت انه ليس للناس وسيلة او حيلة للتخلّص من الالم، بل يتألمون جسمانيا من الامراض والعلل، ونفسيا ممَن حولهم حتى من اعز الناس لديهم، وفكريا من مآسي الحياة وظُلمها.. فمع ان كل الجهود تنصب في تفادي الالم، الا ان الناس فشلت دائما بالتخلّص منه، بل تراه ملازما للجميع منذ الولادة حتى الوفاة، اي من المهد الى اللحد... فالولادة مؤلمة والوفاة مؤلمة اكثر، وبينهما لكل انسان حصة من الآلام والضيق، ولا بد لكل واحد ان يجرع كأس الالم...

لكن الانجيل المقدس، كلمة الله العلي، يفاجئنا اذ يجيب ببساطة ووضوح، ويعطينا حلا شافيا للغز الألم الذي حيّر الجميع... فالتاريخ له الف دليل ومثال على عظماء ولدهم وصاغهم الألم، فكل الشعراء والادباء والفلاسفة والزعماء قد ولدهم الألم والطفولة القاسية... والانجيل هو الكتاب الوحيد الذي يتحدث عن الالم باسهاب، ويعتبره بركة عظيمة ونعمة رائعة، بل هو القطار الى النجاح والى الفهم والحكمة... والمعاناة المحرِقة هي اقوى طريقة ليقول الله القدير ما يريد ان يقوله للبشر. فيبقى الناس شاردين ومشتتي الافكار ومسدودي الآذان، اذا بالالم يطرق بابهم، فيفتحون آذانهم وعيونهم وقلوبهم، مسرعين الى الانصات والاصغاء الى كل كلمة، يريد الخالق ان يوصلها الى اعماق البشر.. فالالام هي اقوى برهان ودليل وبيّنة على محبة الخالق للبشر، وعلى اهتمام القدير بمصير كل انسان...

فالله خلق الانسان على صورته ومثاله، اي ان الانسان هو المخلوق الوحيد الذي منحه الخالق نعمة الارادة الحرة ونعمة الاختيار الحر، فقد منح الله الأنسان ان يختار ما بين الخير والشر، وما بين الله والشيطان، وما بين الهلاك والخلاص، وما بين الحياة والموت... والمؤسف ان الانسان بسبب طبيعته الفاسدة المشحونة بالخطية، دائما يختار الخطية والهلاك، ويرفض الله والبركة.. فمن ناحية الله، رأى لذته ان يصنع الانسان حر الارادة، لا يُلزِمه على اختيار الخالق وحب القدير وعبادة صانعه... لكن الانسان اثبت على مر العصور، انه عاجز عن اختيار الحياة، بل دائما يختار الشر والضلال، ويكنّ العِداء لخالقه، واصراره يقوده للدمار والهلاك... فكيف يجمع الخالق بين منح ارادة حرة لمخلوقه واحترام رأيه المستقل، وبين انقاذه وخلاصه وعدم هلاكه؟... وكيف يُظهِر الخالق حبه العميق للانسان، وفي ذات الوقت لا يكون عن اجبار او اكراه او الزام.؟.. الجواب الوحيد والبسيط لهذا المعضلة الانسانية وهذا اللغز الوجودي هو فقط الفكرة الالهية العجيبة بايجاد موضوع الألم والمعاناة والضيق.. والله في حكمته كما يقول الانجيل "الآخذ الحكماء بمكرهم"، اي ان المعاناة البشرية والالم الانساني هما دائما نتيجة لاختيار الانسان الطريق لنفسه... فمع ان القدير من محبته اوجد الألم كالطريقة الوحيدة لدمج ارادة الانسان الحرة وخلاصه الابدي وخيره الروحي، لكن الله الحكيم وجد طريقة حكيمة، ليكون دائما الانسان وحده هو السبب والمسبب لكل ألم يعتريه وكل معاناة تصيبه. فالله بار في كل الامور، وهو ليس المسبب للالم في اي حال من الاحوال.. ربما يعترض الانسان بسبب فكره الضيق، فيحتج انه غير مقتنع بهذه الامور البديهية. فالانسان بشكل عام يرفض تقبل الفكرة ان في الألم خير، وفي الضيق بركة، وفي المعاناة ابداع وعظمة.. وايضا يرفض الانسان الفكرة ان الانسان نفسه هو المسبب لكل ألم يلم به. فكثيرا ما نقول ان الله هو الذي ارسل الالم للبشر، لكن الحقيقة ان الانسان دائما هو الذي باختياره الحر، يقود نفسه الى معاناته ومعاناة اولاده واحفاده، والله دائما براء من ذلك..

ومن فوائد الالم انه يشد الانسان الى الله، فبينما يركض البشر جادين الى العمل وجمع الثروة، اذا بالألم او المرض يصادفانهم، فيستلقون على سريرهم اياما، ساكنين وصامتين في تفكير عميق وعيونهم الى اعلى.. فالوقت الوحيد الذي يجبر الانسان على النظر الى اعلى، هو وقت المرض... وبينما يرفض دائما الاصغاء الى ما يقوله خالقه الذي يتكلم معه مرات كثيرة، يأتيه الالم، فيجد الانسان ذاته مستغرقا في التفكير العميق في خالقه وفي مصيره الابدي... واذا حاول الهرب، يقابله شبح الموت، فيرتعب ويرتعد ويبكي ويصرخ، ولا يجد مهربا من مواجهة مصيره الابدي بجدية وتؤادة... وليس لدى الله المحب طريقة اخرى، لجذب الانسان الى خالقه، وليس ما يقرّب الانسان من خالقه الا الالم. وحتى الانسان المؤمن الذي يركض من مكان الى آخر، ويبقى قلبيا وروحيا بعيدا عن الرب الهه، الى ان يغزوه الالم ويسبيه الوجع، فيقترب الى الهه اكثر واكثر.. وكثيرا ما نرفض الانكسار امام الله والخضوع لمشيئته، فتغزونا الهموم الثقيلة، لكننا نبقى صامدين، فتزداد الضيقات ضراوة، حتى نسقط على ركبنا، فاذا نحن في مناجاة عميقة وحقيقية وصراخ قلبي الى الخالق، الامر الذي لم نشهده من قبل في حياتنا.... ويؤكد الانجيل ان الالم يحررنا من ذواتنا، فينطلق الانسان الجديد الذي اوجده الله فينا، ويتجدد، اما العتيق فيبلى اكثر واكثر. والكنز السماوي فينا يلمع اكثر عند الالم، والكبرياء تذوب كالثلج عند الضيق، والتزييف يزول من حياتنا بسبب الالم، فتتساقط ثياب التمثيل وتتهاوى البسة الرياء، فقط عند المعاناة، فيحرقها نار لهيب الاتون، فنرتعب، اذا بالهنا القدير والمحب يسير معنا حتى في الاتون.. وبينما نظن ان الالم نهايتنا، والضيق هلاكنا والمعاناة تبعدنا عن الهنا، نكتشف العكس تماما، فنرى الالم يقرّبنا الى الله، والضيق يكون بداية حياتنا مع القدير، والمعاناة نبع للاعلانات الالهية العميقة والثمينة.... فما يحطّمنا، يكون سبب ارتفاعنا، وما يسحقنا يكون سبب ارتفاع قيمتنا وغلاوتنا، ولا يلصقنا بالقدير، الا الالم الذي نهرب منه ونخور امامه... يخطئ مَن يظن ان المعرفة الكتابية لوحدها تزيدنا اقترابا من الله، وتزيدنا ايمانا وتقوى، بل الالم اذا رافق المعرفة، هو الذي يفعل ذلك... فالمعرفة من دون الم، تسبّب الكبرياء والرياء، وكلاهما يبنيان هوة سحيقة بين الانسان وخالقه، حتى ولو كان الانسان واعظا مشهورا وعلما من اعلام المعرفة والفلسفة...

اردت ان اقول في هذه المقالة، ان الالم هو اكبر علامة على محبة الخالق للبشر، والضيق اقوى برهان على اهتمام القدير بالانسان، والمعاناة اقوى دليل هلى حب الله لمخلوقاته. حتى ان يسوع نفسه صار مخلّصا لنا وفاديا وشفيعا ووسيطا وكاهنا، فقط عن طريق الالم الذي عصره على الصليب، وعن طريق المعاناة التي سحقته امام الجميع، وجعلته، بعدما اجتاز معصرة الالم ، طعاما وفرحا ابديين للبشر، فشبّه نفسه بحبة الحنطة التي تسحَق وتطحَن وتصير خبزا وطعاما للآخرين، وايضا كالعنب الذي يعصَر، فيصير فرحا وبهجة للناس. وقد وضع الله هذا الطريق الواحد للجميع، لكل مَن يريد ان يكون سبب بركة وفرح وتشجيع للآخرين.. فلا شيء يؤهلك الى ذلك، الا الالم والضيق، فجمْع المعرفة ولمّ المعلومات من الكتب لوحدها، لا يؤهلانك لتكون سبب خلاص وبركة وتعزية للآخرين. بل الطريق الالهي واحد وهو الصليب، اي ان يسحقك الالم كسحق حبة القمح، فتصير طعاما، وكسحق العنب تحت احجار المعصرة، فتصبح سبب فرح لمَن حولك، وكسحق الزيتون فتصير زيتا، شفاءا للآخرين.  ولا يمكن ان تكون قطعة ماس غالية الثمن، الا باجتياز الالم الشديد. ولم يسر الفتيان الثلاثة مع القدير، الا في الاتون. فالله قادر على اخراج حلاوة من الجافي، اي من الامور القاسية التي تسحقنا يوميا، ومن الآكل اكلا، اي من الامور التي تريد ابتلاعك وسحقك والقضاء عليك، هي ذاتها تكون سبب طعام وشبع واكتفاء عميق لك ولكل الذين من حولك....

طلبة الصلاة:

"يارب أشكرك من أجل محبتك. ساعدني أن افهم مشيئتك في الآلم الموجود في حياتي، دربني أن أتّكل عليك في سيبل التقرب منك ومعرفتك اكتر ، آمين"

هل تحب هذا؟

هل تحب ما قرأت للتو؟ قم بالتسجيل للحصول على هذا كبريد إلكتروني في صندوق الوارد الخاص بك هنا!

التسجيل